الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: معالم القربة في طلب الحسبة
.فَصْلٌ فِيمَا إِذَا رَأَى الْمُحْتَسِبُ محْتَكِرًا مِنْ سَائِرِ الْأَقْوَاتِ: وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ احْتَكَرَ الطَّعَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّهِ، وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ»، وَقِيلَ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ نَفْسًا. وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ، وَجْهَهُ مَنْ احْتَكَرَ الطَّعَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَسَا قَلْبُهُ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ أَحْرَقَ طَعَامًا مُحْتَكَرًا بِالنَّارِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا حُكْرَةَ فِي سُوقِنَا لَا يَعْمِدُ رِجَالٌ بِأَيْدِيهِمْ فُضُولُ مَالٍ مِنْ أَذْهَابٍ إلَى رِزْقٍ مِنْ أَرْزَاقِ اللَّهِ يَنْزِلُ بِسَاحَتِنَا- فَيَحْتَكِرُونَهُ عَلَيْنَا، وَلَكِنْ أَيُّمَا جَالِبٍ جَلَبَ كَيَدِهِ فِي الشِّتَاءِ، وَالصَّيْفِ فَذَاكَ، وَصْفُ عُمَرَ فَلْيَبِعْ كَيْفَ شَاءَ اللَّهُ، وَلْيُمْسِكْ كَيْفَ شَاءَ اللَّهُ، وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، إنَّ الِاحْتِكَارَ مِنْ الظُّلْمِ، وَدَخَلَ تَحْتَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّهْيَ مُطْلَقٌ، وَيَتَعَلَّقُ النَّظَرُ بِهِ فِي الْوَقْتِ، وَالْجِنْسِ أَمَّا الْجِنْسُ فَيَطَّرِدُ النَّهْيُ فِي أَجْنَاسِ الْأَقْوَاتِ أَمَّا مَا لَيْسَ بِقُوتٍ، وَلَا هُوَ مُعَيَّنٍ عَلَى الْقُوتِ كَالْأَدْوِيَةِ، وَالْعَقَاقِيرِ، وَالزَّعْفَرَانِ، وَأَمْثَالِهِ فَلَا يَتَعَدَّى النَّهْيُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَطْعُومًا، وَأَمَّا مَا يُعَيَّنُ عَلَى الْقُوتِ كَاللَّحْمِ، وَالْفَوَاكِهِ، وَمَا يَسُدُّ مَسَدًّا يُغْنِي عَنْ الْقُوتِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ فَهَذَا فِي مَحَلِّ النَّظَرِ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ طَرَدَ التَّحْرِيمَ فِي السَّمْنِ، وَالْعَسَلِ، وَالشَّيْرَجِ، وَالْجُبْنِ، وَالزَّيْتِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ. وَأَمَّا الْوَقْتُ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا طَرْدُ النَّهْيِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُخَصَّصَ بِوَقْتِ قِلَّةِ الْأَطْعِمَةِ، وَحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ فِي تَأْخِيرِ بَيْعِهِ ضَرَرٌ مَا، وَأَمَّا إذَا اتَّسَعَتْ الْأَطْعِمَةُ، وَكَثُرَتْ، وَاسْتَغْنَى النَّاسُ عَنْهَا، وَلَمْ يَرْغَبُوا فِيهَا إلَّا بِقِيمَةٍ قَلِيلَةٍ، وَانْتَظَرَ صَاحِبُ الطَّعَامِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ قَحْطًا فَلَيْسَ فِي هَذَا إضْرَارٌ، وَإِذَا كَانَ الزَّمَانُ زَمَانَ قَحْطٍ كَانَ فِي ادِّخَارِ الْعَسَلِ، وَالشَّيْرَجِ، وَأَمْثَالِهِ إضْرَارٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى بِتَحْرِيمِهِ، وَيُعَوَّلُ فِي نَفْيِ التَّحْرِيمِ، وَإِثْبَاتِهِ عَلَى الضِّرَارِ فَإِنَّهُ مَفْهُومٌ قَطْعًا مِنْ تَخْصِيصِ الطَّعَامِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ضِرَارٌ فَلَا يَخْلُو احْتِكَارُ الْأَقْوَاتِ عَنْ كَرَاهِيَةٍ فَإِنَّهُ يُنْتَظَرُ مَبَادِئُ الضِّرَارِ، وَهُوَ ارْتِفَاعُ الْأَسْعَارِ، وَانْتِظَارُ مُبَادَى الضِّرَارِ مَحْظُورٌ كَانْتِظَارِ عَيْنِ الضِّرَارِ، وَلَكِنَّهُ دُونَهُ فَبِقَدْرِ دَرَجَاتِ الْإِضْرَارِ تَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُ الْكَرَاهِيَةِ، وَالتَّحْرِيمِ، وَكَذَلِكَ، أَوْصَى بَعْضُ التَّابِعِينَ رَجُلًا لَا تُسَلِّمْ، وَلَدَك فِي بَيْعَتَيْنِ، وَلَا فِي صَنْعَتَيْنِ بَيْعِ الطَّعَامِ، وَبَيْعِ الْأَكْفَانِ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى الْغَلَاءَ، وَمَوْتَ النَّاسِ، وَالصَّنْعَتَانِ أَنْ يَكُونَ جَزَّارًا فَإِنَّهَا صَنْعَةٌ تُقَسِّي الْقُلُوبَ، وَصَوَّاغًا فَإِنَّهُ يُزَخْرِفُ الدُّنْيَا بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ فَهَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ، وَالْمَنْعُ مِنْ فِعْلِ الْحَرَامِ، وَاجِبٌ. .فَصْلٌ فِي حُكْمِ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ: وَنَهَى عَنْ بَيْعِ السِّلَعِ حَتَّى تَهْبِطَ إلَى الْأَسْوَاقِ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَصَاحِبُ السِّلْعَةِ بِالْخِيَارِ بَعْدَ أَنْ يُقْدِمَ السُّوقَ وَصُورَة ذَلِكَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ التُّجَّارَ، وَيَكْذِبَ فِي سِعْرِ الْبَلَدِ، وَيَشْتَرِي أَمْتِعَتَهُمْ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَالْمُتَلَقِّي آثِمٌ، وَالْخِيَارُ ثَابِتٌ لِلْبَاعَةِ لِنَصِّ الْحَدِيثِ. .فَصْلٌ فِي الرِّبَا وَأَحْكَامِهِ: وَتَسْلِيمُ الصَّيَارِفَةِ الذَّهَبَ إلَى دَارِ الضَّرْبِ، وَشِرَاءُ الدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ بِهِ حَرَامٌ مِنْ حَيْثُ النَّسْءُ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْغَالِبَ أَنْ يَجْرِي فِيهِ تَفَاضُلٌ إذْ لَا يُرَدُّ الْمَضْرُوبُ بِمِثْلِ وَزْنِهِ، وَأَمَّا الْفَضْلُ فَيُحْتَرَزُ مِنْهُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءِ فِي بَيْعِ الْمُكَسَّرِ بِالصَّحِيحِ فَلَا تَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ فِيهِمَا إلَّا مَعَ الْمُمَاثَلَةِ، وَفِي بَيْعِ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِيَ رَدِيئًا بِجَيِّدٍ دُونَهُ فِي الْوَزْنِ، أَوْ بَيْعُ رَدِيءٍ بِجَيِّدٍ فَوْقَهُ فِي الْوَزْنِ أَعْنِي الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ فَإِنْ اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَلَا حَرَجَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ هَاءً بِهَاءٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَمَنْ زَادَ، وَاسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ». الثَّالِثُ: الْمُرَكَّبَاتُ مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ كَالدَّنَانِيرِ الْمُخَلَّطَةِ مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ إنْ كَانَ مِقْدَارُ الذَّهَبِ مَجْهُولًا لَمْ تَصِحَّ الْمُعَامَلَةُ عَلَيْهِ أَصْلًا إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ نَقْدًا جَارِيًا فِي الْبَلَدِ فَإِنَّا نُرَخِّصُ فِي الْمُعَامَلَةِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُقَابَلْ بِالنَّقْدِ، وَكَذَا الدَّرَاهِمُ الْمَغْشُوشَةُ بِالنُّحَاسِ إنْ لَمْ تَكُنْ رَائِجَةً فِي الْبَلَدِ لَمْ تَصِحَّ الْمُعَامَلَةُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا النُّقَرَةُ، وَهِيَ مَجْهُولَةٌ، وَإِنْ كَانَ نَقْدًا رَائِجًا فِي الْبَلَدِ رَخَّصْنَا فِي الْمُعَامَلَةِ بِهِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، وَخُرُوجِ النُّقْرَةِ عَنْ أَنْ يُقْصَدَ اسْتِخْرَاجُهَا، وَلَكِنْ لَا يُقْبَلُ بِالنُّقْرَةِ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ كُلُّ حُلِيٍّ مُرَكَّبٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِضَّةٍ فَلَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ لَا بِالذَّهَبِ، وَلَا بِالْفِضَّةِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَتَاعٍ آخَرَ إنْ كَانَ قَدْرُ الذَّهَبِ مِنْهُ مَعْلُومًا إلَّا إذَا كَانَ سَمَّوْهَا بِالذَّهَبِ تَمْوِيهًا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ ذَهَبٌ مَقْصُودٌ عِنْدَ الْعَرْضِ عَلَى النَّارِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ بِمِثْلِهِ مِنْ النُّقْرَةِ، وَبِمَا أُرِيدَ مِنْ غَيْرِ النَّقْرَةِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلصُّيَّاغِ، وَالصَّيَارِفَةِ أَنْ يَشْتَرُوا قِلَادَةً فِيهَا خَرَزٌ، وَذَهَبٌ بِذَهَبٍ، وَلَا أَنْ يَبِيعَهُ بَلْ بِالْفِضَّةِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فِضَّةٌ لِمَا رَوَى فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِقِلَادَةٍ فِيهَا خَرَزٌ، وَذَهَبٌ تُبَاعُ، وَهِيَ مِنْ الْغَنَائِمِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلَادَةِ فَنُزِعَ ثُمَّ قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَزْنًا بِوَزْنٍ». وَلَا يَجُوزُ شِرَاءُ ثَوْبٍ مَنْسُوجٍ بِذَهَبٍ يَحْصُلُ مِنْهُ ذَهَبٌ مَقْصُودٌ عِنْدَ الْعَرْضِ عَلَى النَّارِ بِذَهَبٍ، وَيَجُوزُ بِالْفِضَّةِ، وَغَيْرِهَا. .فَصْلٌ فِيما يَجِبُ عَلَى الْمُتَعَامِلِينَ عَلَى الْأَطْعِمَةِ: وَكَذَا الْخَبَّازُ بِأَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ الْحِنْطَةَ وَيَشْتَرِيَ بِهَا الْخُبْزَ نَسِيئَةً، أَوْ نَقْدًا فَهُوَ حَرَامٌ، وَكَذَا مُعَامَلَةُ الْعَصَّارُ إذَا سَلَّمَ إلَيْهِ السِّمْسِمَ، أَوْ الزَّيْتُونَ لِيَأْخُذَ مِنْهُ الْأَدْهَانَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَكَذَا اللَّبَّانِ يُعْطَى اللَّبَنَ لِيُؤْخَذَ مِنْهُ الْجُبْنُ، وَالسَّمْنُ، وَالزُّبْدُ، وَسَائِرُ أَجْزَاءِ اللَّبَنِ فَهُوَ حَرَامٌ. وَلَا يُبَاعُ الطَّعَامُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ إلَّا نَقْدًا، أَوْ بِجِنْسِهِ إلَّا نَقْدًا مُتَمَاثِلًا، أَوْ مُتَفَاضِلًا فَلَا يُبَاعُ بِالْحِنْطَةِ دَقِيقٌ، وَلَا خُبْزٌ، وَلَا سَوِيقٌ، وَلَا بِالْعِنَبِ دِبْسٌ، وَخَلٌّ، وَعَصِيرٌ، وَلَا بِاللَّبَنِ سَمْنٌ، وَزُبْدٌ، وَمَخِيضٌ، وَجُبْنٌ، وَالْمُمَاثَلَةُ لَا تُفِيدُ إذَا لَمْ يَكُنْ الطَّعَامُ فِي حَالِ كَمَالِ الِادِّخَارِ فَلَا يُبَاعُ الرُّطَبُ بِالرُّطَبِ، وَالْعِنَبُ بِالْعِنَبِ مُمَاثِلًا، وَمُتَفَاضِلًا، فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُقْنِعَةٌ فِي تَعْرِيفِ الْبَيْعِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا يُشْعِرُ التَّاجِرَ بِمُثَارَاتِ الْفَسَادِ حَتَّى يَسْتَفْتِيَ فِيهَا إذَا تَشَكَّكَ، وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ هَذَا لَمْ يَفْتَطِنْ لِمَوَاضِعِ السُّؤَالِ، وَاقْتَحَمَ الرِّبَا، وَالْحَرَامَ، وَهُوَ لَا يَدْرِي. .فَصْلٌ فِي تَرْوِيجِ الصَّيَارِفِ الدَّرَاهِمَ الْمُزَيَّفَةَ عَلَى النَّاسِ: الثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى التَّاجِرِ تَعَلُّمِ النَّقْدِ لَا لِيَسْتَقْصِيَ لِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ لِئَلَّا يُسَلِّمَ إلَى مُسْلِمٍ زَائِفًا، وَهُوَ لَا يَدْرِي فَيَكُونُ آثِمًا بِتَقْصِيرِهِ فِي تَعَلُّمِ ذَلِكَ الْعِلْمِ فَكُلُّ عِلْمٍ عُمِلَ بِهِ يَتِمُّ نُصْحُ الْمُسْلِمِينَ فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَتَعَلَّمُونَ عَلَامَاتِ النَّقْدِ نَظَرًا لِدِينِهِمْ لَا لِدُنْيَاهُمْ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إنْ سَلَّمَ، وَعَرَّفَ الْمُعَامَلَ أَنَّهُ زَائِفٌ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْإِثْمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ يَأْخُذُهُ إلَّا لِيُرَوِّجَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا يُخْبِرُهُ، وَلَوْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ لَا يَرْغَبُ فِي أَخْذِهِ أَصْلًا فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ وِزْرُ الْكُلِّ عَلَيْهِ، وَوَبَالُهُ رَاجِعًا إلَيْهِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي فَتَحَ ذَلِكَ الْبَابَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ». وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْفَاقُ دِرْهَمٍ زَائِفٍ أَشَدُّ مِنْ سَرِقَةِ مِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ مَعْصِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ تَمَّتْ، وَانْقَطَعَتْ، وَإِنْفَاقُ الزَّائِفِ بِدْعَةٌ تَظْهَرُ فِي الدِّينِ، وَسُنَّةٌ سَيِّئَةٌ يُعْمَلُ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ فَيَكُونُ وِزْرُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى مِائَةِ سَنَةٍ، أَوْ إلَى مِائَتِي سَنَةٍ، إلَى أَنْ يَفْنَى ذَلِكَ الدِّرْهَمُ، وَيَكُونَ عَلَيْهِ وِزْرُ مَا فَسَدَ، وَنَقَصَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِذَلِكَ الزَّائِفِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الزَّائِفَ نَعْنِي بِهِ مَا لَا نُقْرَةَ فِيهِ أَصْلًا بَلْ هُوَ مُمَوَّهٌ فَإِنْ كَانَ مَخْلُوطًا بِالنُّحَاسِ، وَهُوَ نَقُدْ الْبَلَدِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُعَامَلَةِ بِهِ، وَقَدْ رَأَيْنَا الرُّخْصَةَ فِيهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ نَقْدَ الْبَلَدِ سَوَاءٌ عُلِمَ مِقْدَارُ النُّقْرَةِ، أَوْ لَمْ يُعْلَمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَقْدُ الْبَلَدِ لَمْ يَجُزْ إلَّا إذَا عُلِمَ قَدْرُ النُّقْرَةِ فَإِنْ كَانَ فِي مَالِهِ قِطْعَةٌ نُقْرَتُهَا نَاقِصَةٌ عَنْ نَقْدِ الْبَلَدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ مُعَامِلَهُ، وَأَلَّا يُعَامِلَ بِهِ مَنْ يَسْتَحِلُّ التَّرْوِيجَ فِي جُمْلَةِ النَّقْدِ بِطَرِيقِ التَّلْبِيسِ فَأَمَّا مَنْ يَسْتَحِلُّ ذَلِكَ فَتَسْلِيمُهُ إلَيْهِ تَسْلِيطٌ لَهُ عَلَى الْفَسَادِ فَهُوَ كَبَيْعِ الْعِنَبِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَذَلِكَ مَحْظُورٌ، وَإِعَانَتُهُ عَلَى الشَّرِّ مُشَارَكَةٌ فِيهِ، وَسُلُوكُ طَرِيقِ الْحَقِّ بِأَمْثَالِ هَذَا فِي التِّجَارَةِ أَشَدُّ مِنْ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى نَوَافِلِ الْعِبَادَةِ. .فَصْلٌ فِي تَحْرِيمِ ثَنَاءِ التَّاجِرِ عَلَى السِّلْعَةِ: وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَنِيٌّ مُسْتَكْبِرٌ، وَمَنَّانٌ بِعَطِيَّتِهِ، وَمُنْفِقٌ سِلْعَةً بِيَمِينِهِ». وَإِذَا كَانَ الثَّنَاءُ عَلَى السِّلْعَةِ مَعَ الصِّدْقِ مَكْرُوهًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فُضُولٌ لَا يَزِيدُ فِي الرِّزْقِ، وَلَا يَخْفَى التَّغْلِيظُ فِي أَمْرِ الْيَمِينِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ الْأُبُلِّيِّ، وَكَانَ خَزَّازًا أَنَّهُ طُلِبَ مِنْهُ خَزٌّ لِلشِّرَاءِ فَأَخْرَجَ غُلَامُهُ سَفَطَ الْخَزِّ فَنَشَرَهُ، وَنَظَرَ إلَيْهِ، وَقَالَ اللَّهُمَّ اُرْزُقْنَا الْجَنَّةَ فَقَالَ لِغُلَامِهِ رُدَّهُ إلَى مَكَانِهِ، وَلَمْ يَبِعْهُ، وَخَافَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَعْرِيضًا لِلثَّنَاءِ عَلَى السِّلْعَةِ فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ اتَّجَرُوا فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يُضَيِّعُوا دِينَهُمْ فِي تِجَارَتِهِمْ بَلْ عَلِمُوا أَنَّ رِبْحَ الْآخِرَةِ، أَوْلَى بِالطَّلَبِ مِنْ رِبْحِ الدُّنْيَا. .فَصْلٌ فِي السَّلَمِ وشُرُوطِ صِحَّتِهِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مَعْلُومًا عِلْمَ مِثْلِهِ حَتَّى لَوْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمُسَلَّمِ فِيهِ أَمْكَنَ الرُّجُوعُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ فَإِنْ أَسْلَمَ كَفًّا مِنْ الدَّرَاهِمِ جُزَافًا فِي كُرِّ حِنْطَةٍ لَمْ يَصِحَّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. الثَّانِي: أَنْ يُسَلِّمَ رَأْسَ الْمَالِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ فَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ انْفَسَخَ السَّلَمُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ مِمَّا يُمْكِنُ تَعْرِيفُ، أَوْصَافِهِ كَالْحُبُوبِ، وَالْحَيَوَانَاتِ، وَالْمَعَادِنِ، وَالْقُطْنِ، وَالصُّوفِ، وَالْإِبْرَيْسَمِ، وَالْأَلْبَانِ، وَاللُّحُومِ، وَمَتَاعِ الْعَطَّارِ، وَأَشْبَاهِهَا، وَلَا يَجُوزُ فِي الْمَعْجُونَاتِ، وَالْمُرَكَّبَاتِ، وَمَا يَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهُ كَالْقِسِيِّ الْمَصْنُوعَةِ، وَالنَّبْلِ الْمَعْمُولِ، وَالْخِفَافِ، وَالنِّعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ أَجْزَاؤُهَا، وَصَنْعَتُهَا، وَجُلُودِ الْحَيَوَانَاتِ، وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْخُبْزِ، وَمَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ مِنْ اخْتِلَافِ قَدْرِ الْمِلْحِ، وَالْمَاءِ بِكَثْرَةِ الطَّبْخِ، وَقِلَّتِهِ- يُعْفَى عَنْهُ، وَيُتَسَامَحُ فِيهِ. الرَّابِع: أَنْ يَسْتَقْصِيَ وَصْفَ هَذِهِ الْأُمُورِ الْقَابِلَةِ لِلْوَصْفِ حَتَّى لَا يَبْقَى وَصْفٌ تَتَفَاوَتُ بِهِ الْقِيمَةُ تَفَاوُتًا لَا يَتَغَابَنُ بِهِ إلَّا ذَكَرَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ هُوَ الْقَائِمُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ. الْخَامِسُ: أَنْ يَجْعَلَ الْأَجَلَ مَعْلُومًا إنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَلَا يُؤَجِّلُ إلَى الْحَصَادِ، أَوْ إلَى إدْرَاكِ الثِّمَارِ بَلْ إلَى الْأَشْهُرِ، وَالْأَيَّامِ فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ قَدْ يَتَقَدَّمُ، وَيَتَأَخَّرُ. السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ مِمَّا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَقْتَ الْمَحَلِّ يُؤْمَنُ فِيهِ وُجُودُهُ غَالِبًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ فِي الْعِنَبِ إلَى أَجَلٍ لَا يُدْرَكُ فِيهِ، وَكَذَا سَائِرِ الْفَوَاكِهِ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ وُجُودُهُ، وَجَاءَ الْمَحَلُّ، وَعَجَزَ عَنْ التَّسْلِيمِ بِسَبَبِ آفَةٍ فَلَهُ أَنْ يُمْهِلَهُ إنْ شَاءَ، أَوْ يَفْسَخَ، وَيَرْجِعَ فِي رَأْسِ الْمَالِ إنْ شَاءَ. السَّابِعُ: أَنْ يَذْكُرَ مَكَانَ التَّسْلِيمِ فِيمَا يَخْتَلِفُ الْغَرَضُ فِيهِ كَيْ لَا يُنْشِئَ ذَلِكَ نِزَاعًا. الثَّامِنُ: أَنْ لَا يُعَلِّقَهُ بِمُعَيَّنٍ، فَيَقُولُ: مِنْ حِنْطَةِ هَذَا الْبَيْتِ، أَوْ ثَمَرَةِ هَذَا الْبُسْتَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ كَوْنَهُ دَيْنًا نَعَمْ لَوْ أَضَافَ إلَى ثَمَرَةِ بَلَدٍ، أَوْ قَرْيَةٍ كَبِيرَةٍ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ. التَّاسِعُ: أَنْ لَا يُسَلَّمَ فِي شَيْءٍ نَفِيسٍ عَزِيزِ الْوُجُودِ، مِثْلُ دُرَّةٍ مَوْصُوفَةٍ يَعِزُّ مِثْلُهَا، أَوْ جَارِيَةٍ حَسْنَاءَ مَعَهَا، وَلَدُهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَالِبًا. الْعَاشِرُ: أَنْ لَا يُسَلَّمَ فِي طَعَامٍ مَهْمَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ طَعَامًا سَوَاءً كَانَ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا سَلَمَ فِي نَقْدٍ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ نَقْدًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي فَصْلِ الرِّبَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. |